” لقد أدرك الإنسان اليوم أن العلم لا يمكنه أن يحلّ مشكلاته العملية اليومية، كما ثبت لديه أن توصيل آراءه يحتاج إلى وسيلة أكثر إنسانية تنأى به عن صرامة العلم وتجنبه أساليب الإكراه والتطويع وكل ما يشير إلى عنف الخطاب الذي لا يبتعد كثيرا عن العنف الجسدي. من هنا تنبثق أهمية البلاغة بوصفها الأداة الأكثر إنسانية في تواصل الأفراد داخل المجتمع وتواصل الشعوب داخل هذا العالم الذي يحتويهم. و كشفت الثورات العلمية والتحولات المعرفية أن مسألة اليقين هي مجرد فرضية وأن نظام التعقل هو نظام حواري ونتائجه إمكانات معرفية، واكتشف العقل المعاصر أن قوته ليست في انسجامه وتناغمه وتوحده بل في تعدده واختلافه، وأن البحث عن تطابق الفكر مع ذاته أو الفكر مع الطبيعة، إنما هو بحث عقيم يكبح طبيعة العقل نفسها، والتي هي طبيعة حية ودينامية، ومن ثم وجب على التفكير العقلاني استبدال هذا البحث ببحث آخر يوجّه الفكر نحو إدراج اختلافاته ضمن صيرورة تاريخية، وهو ما يعني اعتبار هذه الاختلافات كآراء وليست كقوانين وأن مبدأ انتصار الرأي هو المحاجة والأقناع، وليس شكلا صوريا معزولا عن شروطه التاريخية”